بين لحظتَي السادات وابن سلمان «الصفقة الشاملة» (ليست) بمتناول اليد

بعد عامين على «طوفان الأقصى»، تتجدّد مساعي التطبيع السعودي-الإسرائيلي في لحظة إقليمية شديدة الاضطراب، تتقاطع فيها حسابات واشنطن والرياض وتل أبيب لإعادة رسم موازين المنطقة.

بعد مرور عامَين على «طوفان الأقصى»، تتجدّد محاولات إيصال ما انقطع بين السعودية وإسرائيل عام 2023، حين كانت الترتيبات لتوقيع اتفاق تطبيع كبير تشارف على نهاياتها، وفقاً لما دلّت عليه مؤشّرات كثيرة، من بينها قول وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، لشبكة «فوكس نيوز» (20 أيلول 2023): «كلّ يوم نقترب من التطبيع مع إسرائيل». حينذاك، كانت استطلاعات الرأي، وفقاً لـ«معهد واشنطن»، تفيد بتأييد غالبية السعوديين للتطبيع، ولكن في استطلاع آخر للجهة نفسها أُجري في كانون الأول من العام نفسه، أي بعد مرور شهرين على «طوفان الأقصى»، جاءت النتيجة عكسية تماماً. وأيّاً يكن، فالأكيد أن الحَراك المتّصل بالتطبيع اليوم، يندرج في سياق مختلف تماماً عن السابق، يجعله أكثر جدّية وخطورة، علماً أنه يرتكز على محاور ثلاثة: أوّلها الدافع السعودي؛ إذ لم يَعُد التطبيع بالنسبة إلى المملكة مجرّد خيار سياسي، بل أصبح مندكّاً في «رؤية 2030»، ومتسقاً مع مساعي المملكة إلى تحقيق «فتح» اقتصادي وتقني من طريق العلاقات مع إسرائيل، يشرّع الباب أمام الاستثمارات التكنولوجية والأمن السيبراني، باعتبارهما قطاعَين حيويَّين للرؤية المشار إليها؛ وثانيها، إعادة رسم العلاقة بين واشنطن والرياض، في ظلّ سعي الأخيرة إلى انتزاع التزام أمني رسمي (معاهدة دفاع مشابهة لتلك الموقّعة مع اليابان وكوريا الجنوبية)، ودعم لبرنامج نووي مدني، يكون التطبيع مع إسرائيل هو «الثمن» السياسي مقابلهما؛ وثالثها الدافع الإسرائيلي، أخذاً في الحسبان عدّ تل أبيب التطبيع مع المملكة «الجائزة الكبرى»، التي تتجاوز في أهمّيتها الاتفاقات الموقّعة مع الإمارات والبحرين، كونها تحقّق للكيان مكاسب متعدّدة، لعلّ من جملتها شرعية إقليمية غير مسبوقة تحطّم حاجز «لا سلام قبل حلّ القضية الفلسطينية»، ولا سيما أن التطبيع سيكون مع أكبر اقتصاد عربي وبلد الحرمَين الشريفَين؛ تحالف عسكري استراتيجي يمهّد لتنسيق أمني وعسكري مباشر ضدّ إيران، بما يغيّر موازين القوى في الشرق الأوسط؛ وفوائد اقتصادية هائلة نظراً إلى ضخامة السوق السعودية التي ستمثّل دفعة قوية للاقتصاد الإسرائيلي.

جاءت زيارة ابن سلمان إلى واشنطن، في الثامن عشر من الشهر الماضي، في ذروة تحوّلات إقليمية كبرى: حرب غزة المستمرّة بشكل أو بآخر، الاحتلال الإسرائيلي لجنوبَي لبنان وسوريا، وتهشّم صورة إسرائيل لدى الرأي العام الغربي. في هذا السياق تحديداً، أتى عرض ترامب القائم على دفاع أميركي عن المملكة في مقابل تطبيع سعودي – إسرائيلي؛ لكن ابن سلمان الذي أَحرق مراكبه في الداخل بفعل تفتيت الإجماع العائلي، وتهميش المؤسسة الدينية، وإقصاء النخبة النجدية، تعلّم من «حماقاته» السابقة ألّا يغامر في قضيّة مصيرية من مثل القضية الفلسطينية. ولهذا، لم يعطِ «شيكاً على بياض» لمضيفه، بل رفع لافتة مشروطة: لا تطبيع من دون «مسار واضح» نحو دولة فلسطينية؛ وهي لافتة تستند إلى ثوابت شعبية محلية وعربية وإسلامية، وقناعة بأن التصادم مع الشارع في مجال هذه الثوابت محفوف بخطر استجلاب الانفجار الشعبي، وخشية كامنة من مصير مشابه لـ«مصير السادات».

ووفقاً للبيانات الأميركية والتسريبات الصحافية، يمكن تلخيص «حُزمة ترامب» للأمير السعودي بالعناصر الآتية:

– اتفاق دفاع استراتيجي أميركي – سعودي (المملكة حليف من خارج «الناتو»)، يتعهّد ترامب بموجبه بتعميق الشراكة العسكرية، وتسهيل عمل شركات السلاح الأميركية في السعودية، وتوسيع الوجود الأمني لقواته فيها بما يشبه «مظلّة حماية» سياسية وعسكرية، أي العودة إلى نظام «المحميّات» على الطريقة البريطانية، ولكن وفقاً لصيغة محدّثة.

– موافقة أوّلية على بيع السعودية مقاتلات «إف-35»، وذلك في إطار صفقة تسليح ضخمة أراد ترامب تقديمها كدليل على «التحالف المطلق» مع الرياض؛ مع لفت الانتباه إلى أن الصفقة لم تدخل حيز التنفيذ (ولن تدخله مطلقاً بحسب تصريحات وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو)، خصوصاً وأن ما ورد في «مدونة الوقائع» الصادرة عن البيت الأبيض، في الـ18 من تشرين الثاني، هو «عمليات تسليم مستقبلية» لهذه الطائرات التي لم يُحدَّد عددها، ولا سعرها، ولا موعد تسليمها.

– شراكة اقتصادية – استثمارية هائلة مع إعلان السعودية عن رفع حجم الاستثمارات في الاقتصاد الأميركي إلى ما يقارب التريليون دولار، في قطاعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والطاقة والبنى التحتية، وذلك في موازاة الحديث عن تمكين السعودية من تخصيب اليورانيوم بمشاركة أميركية.

على أنه لا يمكن فهم مشروع التطبيع السعودي – الإسرائيلي، اليوم، بمعزل عن تاريخ طويل من «التسويات» التي استُخدمت كوسيلة لإنقاذ كيان مأزوم أو نظام مأزوم. فما بين عامَي 1978 و1979، جاء الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، إلى واشنطن بعد هزائم واستنزاف، فكانت التسوية المصرية – الإسرائيلية، أو ما يُعرف بـ«كامب ديفيد» مخرجاً لكلّ من القاهرة وتل أبيب، تنسحب مصر بموجبه من جبهة المواجهة وتستعيد سيناء تحت سقف أميركي، فيما تتخلّص إسرائيل من أخطر جيش عربي، وتفتح باب الاختراق في المنطقة. أما في «اتفاقية أوسلو» عام 1993، فقد دخلت «منظمة التحرير» المحاصرة في تونس، بعد حصار بيروت وحرب الخليج، في تسوية جعلت السلطة الفلسطينية تتحمّل جزءاً من عبء الاحتلال بدلاً من أن تزيله، قبل أن تحوّلها إسرائيل إلى غطاء للتوسّع الاستيطاني وتفتيت الضفة الغربية. وفي عام 1994، أبرم الأردن المأزوم اقتصاديّاً وسياسيّاً اتفاقية «وادي عربة» التي ضمنت بقاء النظام وتزويده بمساعدات مالية وأمنية، في مقابل حصول إسرائيل على حدود شرقية آمنة وعمق استراتيجي إضافي. وبخصوص «اتفاقات أبراهام» الموقّعة عام 2020، فقد دخلت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان فيها في مقابل صفقات سلاح واعترافات أميركية (كالاعتراف بالصحراء الغربية للمغرب)، ورفع من لوائح العقوبات (السودان)، في حين حصلت إسرائيل بواسطتها على شرعية عربية مجانية تقريباً من دون أيّ تنازل حقيقي للفلسطينيين.

أمّا اليوم، فيُعاد إنتاج السيناريو نفسه على مستوى أكبر: تعيش إسرائيل مأزقاً تاريخيّاً بعد حرب غزة الطويلة، في ظلّ تراجع سمعة جيشها، وارتفاع منسوب الملاحقات القانونية الدولية ضدّ قادتها (نتنياهو وغالانت)، في حين أن السعودية تواجه مأزقاً من نوع آخر يتمثّل في التحوّلات الاقتصادية العميقة لـ«رؤية 2030»، وتعثّر مشاريعها الكبرى (ودرّة تاجها «نيوم»)، وصراعها مع إيران والإمارات وتركيا، وحاجتها إلى ضمانات أمنية أميركية. ومن هنا، يصبح «السلام» – أو بالأحرى التطبيع – مشروعاً لإنقاذ طرفَين: إسرائيل من عزلتها، وولي العهد من هشاشة موقعه.

من «السلام بالقوّة» إلى «التطبيع بالقوّة»

يَستخدم منطق «السلام بالقوّة» التفوّق العسكري لسحق الخصم أو تركيعه، ثم فرض اتفاق عليه يشرعن نتيجة القوّة. غير أن ما حدث في غزة ولبنان وسوريا وإيران، بين عامَي 2023 و2025، كشف حدود هذا المنطق؛ فقد فشلت إسرائيل في تحقيق نصر حاسم، وتراجَع تأييدها في الكونغرس وبين الشباب الأميركي، وفقاً لما تكشفه استطلاعات الرأي الأميركية. وأمام هذا الفشل، يصبح التطبيع مع دولة محورية من مِثل السعودية، تعويضاً للخسارة المعنوية في الغرب عبر كسب شرعية من قلب العالم الإسلامي، وطريقاً لتحويل المملكة إلى شريك في «السلام بالقوّة» عبر تمويل إعادة إعمار قطاع غزة وفقاً لشروط أميركية – إسرائيلية، وربّما فرض صيغ لــ«غزة جديدة» تحت الوصاية الإقليمية.

لكن، أين تختلف لحظة ابن سلمان عن لحظة السادات؟ رغم التشابه في كون التسوية تأتي في سياق مأزق حربي، إلّا أن هناك ثلاثة فروق جوهرية، هي الآتية:

أولاً: انقلاب الرأي العام العالمي؛ فالسادات وقّع «كامب ديفيد» في زمن الإعلام التقليدي، حيث كانت الرواية الإسرائيلية للسلام تجد آذاناً صاغية في الغرب، في حين أن ابن سلمان يتحرّك في زمن «تيك توك» و«إنستغرام»، والجامعات المنتفضة، والمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، وفي زمن بدأ فيه الشباب الغربي يَعتبر فلسطين قضيّة عدالة لا قضيّة حدود.

ثانياً: موقع السعودية الرمزي: فمع أن مصر دولة مركزية، لكنها ليست حاضنة وحامية للحرمَين. أمّا السعودية، وبحكم رعايتها للمقدّسات، فلا تستطيع أن تبصم على ورقة «تطبيع مجاني» مع كيان يحاصر الأقصى ويقتل أهل غزة، من دون أن تدفع ثمناً هائلاً من شرعيتها الإسلامية.

ثالثاً: طبيعة العلاقة مع واشنطن؛ فقد دخل السادات «كامب ديفيد» في لحظة صعود أميركي مطلق، فيما يتعامل ابن سلمان مع أميركا في لحظة تراجع دولي نسبي، وصعود قوى أخرى (الصين، روسيا، البريكس)، ما يمنحه – نظريّاً – هامش مناورة أكبر، وإنْ كان لا يزال معتمداً على المظلّة الأمنية الأميركية.

وعليه، يكون السؤال العملي: ماذا يريد كل طرف من التطبيع اليوم؟ ترامب يريد إنجازاً تاريخيّاً يسوّقه لناخبيه، في موازاة تثبيت العلاقة الاقتصادية – العسكرية مع السعودية، وربط أموال الأخيرة بمستقبل صناعات السلاح والطاقة والتكنولوجيا في الولايات المتحدة، وأيضاً إنقاذ إسرائيل من مأزقها عبر وصلها بمحور عربي جديد تقوده الرياض ضدّ طهران. ومن ناحيتها، تسعى إسرائيل وراء كسر دائرة العزلة الأخلاقية والسياسية بعد حرب غزة، وإظهار أن العالم العربي ما يزال مستعدّاً للتصالح معها، إلى جانب جرّ الرياض إلى محور «السلام بالقوّة» كي لا تبقى أبو ظبي وحدها في الواجهة. أمّا السعودية فتريد ضمانات أمنية أميركية مكتوبة لا مجرد وعود، وكذلك إعادة تأهيل ابن سلمان في واشنطن بعد سنوات من العُزلة، وتالياً تتويجه ملكاً بمباركة أميركية، فضلاً عن استخدام التطبيع كورقة مساومة في الملفّات الإقليمية (إيران، اليمن، سوريا، النفوذ التركي والقطري). لكن يبقى السؤال: مَن سيدفع ثمن صفقة التطبيع؟ وهل تتحمّل السعودية، شعبيّاً وتاريخيّاً، أن تُسجَّل كَمَن أنقذ إسرائيل حين كانت على حافة الانكشاف الأخلاقي الكامل؟ وكيف ستكون صورة «الإبراهيمية الكبرى» إذا ما حملت توقيع الدولة التي تحتضن مكة والمدينة؟

منطق الصفقة وحدودها

في ضوء ما تقدّم، يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوات محتملة لمسار التطبيع السعودي – الإسرائيلي:

– سيناريو «صفقة القرن الكبرى»: الأقلّ احتمالاً، وإنْ كان ممكناً، وهو يقوم على «صفقة شاملة» ما تزال مرفوضة إسرائيليّاً وحتى أميركيّاً، مع أن السعودية تنظر إليها باعتبارها «الذريعة المثالية» لتبرير التطبيع.

– سيناريو التطبيع المرحلي أو المحدود (الأكثر احتمالاً): يتمّ التوصل إلى اتفاق يتضمّن خطوات اقتصادية وديبلوماسية محدودة، مع الحفاظ على «مسار» للقضية الفلسطينية يكون غامضاً وقابلاً للتأجيل، وهو سيناريو يرضي الجميع جزئياً لكنه لا يحلّ المشكلة الجوهرية، ما يجعله هشّاً وعرضة للانهيار في أيّ لحظة.

– سيناريو الفشل والجمود: نظراً إلى أن الفجوات، خاصة حول القضية الفلسطينية، ما تزال واسعة جداً، فقد يفشل الطرفان في تلبية توقّعات بعضهما البعض، فيما لا يُستبعد أن يعمد أحد أطراف التحالف الإسرائيلي الفاشي إلى عمل استفزازي يرغم السعودية على الانسحاب من المفاوضات.

عن وكالة ميادين المقاومة

شاهد أيضاً

بيوت بيروت للسيّاح والأجانب فقط!

يكثُر في العاصمة بيروت، تحديداً الأشرفية ومار مخايل، تقسيم الشقق إلى وحدات سكنية صغيرة، بهدف …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *