رفض إسرائيلي متنامٍ لـ«التنازلات»: فلْيدفع العرب ثمن التطبيع
وكالة ميادين المقاومة
7 ساعات مضت
أخبار هامّة, الرئيسية, النشرة الدولية, النشرة اللبنانية, مقالات مختارة, منوّعات
يتراجع مفهوم التطبيع في الوعي الإسرائيلي من مشروع اندماج إقليمي إلى أداة تكتيكية تركّز على الأمن، فيما تتقدّم المقاربة اليمينية الرافضة لأيّ تنازل سياسي.

اليمين الإسرائيلي المتطرّف يسعى لفرض رؤيته للعلاقات مع العرب!
لا يحمل مصطلح التطبيع في إسرائيل، المعنى نفسه الذي يحيل إليه في العالم العربي، بل يخضع لتفسيرات مغايرة تتعلّق بتداعياته وشروط قبوله أو رفضه ومقاصده. كما إن الموقف منه ليس أحادي الاتجاه، بل يتحرّك بين حدّين: رافض ومؤيد، وإن بات، بعد تطورات العامين الماضيين، يميل بشكل ملحوظ نحو الضفة اليمينية المتطرّفة، التي لا تكتفي برفض أيّ تنازلات مقابل «السلام»، بل تعدّ الأخير نوعاً من «الترف السياسي»، لا يستحقّ أن تنشغل به إسرائيل، في ظلّ أولوياتها الأمنية وضرورات استكمال مشروعها التوسّعي. في السنوات التي أعقبت توقيع «اتفاقات أبراهام» عام 2020، بدا أن التطبيع مع الدول العربية، وتحديداً الخليجية، يحتلّ مكانة مركزية في الرؤية الأمنية والسياسية لإسرائيل. لكن بعد مرور أكثر من عامين على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بات من الواضح أن مكانة التطبيع داخل الوعي الجمعي وعلى مستوى المؤسسة السياسية الإسرائيلية تراجعت، حيث لم يعد يُنظر إليه كأولوية. مع ذلك، يتجاذب الداخلَ الإسرائيلي موقفان: الأول يذهب إلى أن التطبيع ليس مجرّد اتفاقات ديبلوماسية، بل أداة أمنية واقتصادية حيوية تؤدي إلى علاقات مدنية واسعة في السياحة والتعليم والثقافة والتجارة، من شأنها تثبيت «السلام»، ودمج إسرائيل مع المحيط، عبر خلق مصالح مشتركة مستدامة. وبحسب هذه الرؤية «الاستراتيجية»، فإن الاقتصار على العلاقات مع الأنظمة من دون سحبها على الجمهور يجعل الاتفاقات هشّة، ومرهونة بتفاهمات بين «النخب»، ومعرَّضة للانهيار عند أول أزمة. أما الرؤية الثانية، فأقلّ طموحاً، لكنها أكثر تماشياً مع الواقع وفق ما يصفها به المنظّرون لها؛ فهي تقوم على أن التطبيع الكامل ليس ضرورياً، بل يكفي أن تبقى القنوات الأمنية والاقتصادية الحيوية نشطة، كما أنها تعدّ نموذج «السلام البارد»، القائم مع مصر والأردن، مناسباً لتطبيقه على دول عربية أخرى، كونه يمنع الحرب ويؤمّن التنسيق الاستراتيجي، من دون أن يثير معارضة داخلية وازنة لدى الأنظمة العربية، أو يدفع بإسرائيل إلى «سخونة العلاقات»، التي قد تجبرها على تقديم تنازلات غير مرغوبة، خصوصاً في الملف الفلسطيني.
وإذا كان هذان الموقفان هما السائدان تقليدياً، مع تفاوت في نسبة تأييد كلّ منهما تبعاً لهويّات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بين يمين ووسط – لا يسار حقيقياً في إسرائيل -، فإن السياسة الإسرائيلية السائدة حالياً، في ظلّ حكومة بنيامين نتنياهو، تميل بوضوح إلى الرؤية الثانية، أو ما هو أكثر تطرّفاً منها حتى. فرغم الخطاب العلني المؤيّد للتطبيع، فإن الممارسات على الأرض تُظهر إيلاء أولوية واضحة للمصالح الأمنية المباشرة، ورفضاً لأي مساومة على «أرض إسرائيل الكاملة». وهو رفضٌ يظلّ واحداً، سواء انطلق من اعتقاد توراتي يتبنّاه جزء من الائتلاف الحاكم، أو من موقف يميني تتّخذه أحزاب غير دينية، وفي مقدّمتها «الليكود»، الذي يفضّل علاقات لذاتها مع الأنظمة العربية من دون أيّ ربط بالقضية الفلسطينية أو تنازلات أمنية أو سياسية أو جغرافية.
مع اندلاع الحرب على غزة، دخلت العلاقات مع الدول المطبّعة، وخصوصاً تلك التي انضمّت حديثاً إلى ركب التطبيع عبر «اتفاقات أبراهام»، مرحلة «ازدواجية» واضحة؛ إذ تراجعت العلاقات «المدنية» بشكل كبير، وعُلّقت مبادرات اقتصادية وثقافية وزيارات متبادلة، وانحسر الخطاب المؤيّد للتطبيع، وذلك تحت تأثير حرب الإبادة التي أثارت غضباً في الشارع العربي، دفَع الحكومات إلى تفضيل «تبريد العلاقات» من دون قطع الجسور مع إسرائيل. لكن المفارقة أن هذا التبريد العلني لم ينسحب على المجال الأمني، حيث استمرّ التنسيق واتّسع، خصوصاً في مواجهة ما يوصف بـ«التهديدات المشتركة»، كإيران وأعداء إسرائيل في المنطقة. وعلى هذه الخلفية، تحوّل التطبيع إلى علاقة من طبقتين: طبقة أمنية فعّالة تعمل بصمت، وطبقة علنية توحي بالتجميد، وهو ما أدّى، عملياً، إلى تعزُّز التفسير اليميني للتطبيع، والذي يتماشى مع أجندات مكوّنات الحكومة الحالية.
قبل الحرب، راهنت إسرائيل على أن «اتفاقات أبراهام» مع دول الخليج والمغرب والسودان، ستحقّق تطبيعاً معزولاً عن القضية الفلسطينية، وأن «الفيتو الفلسطيني» انتهى إلى غير رجعة، لا بل بدا أن السعودية نفسها أقرب إلى تطبيع غير مشروط بأفق سياسي للفلسطينيين. لكن بعد السابع من أكتوبر 2023، لم يعد هذا الرهان ممكناً، ما لم تُقدِم إسرائيل على مبادرات تجاه الفلسطينيين، وهو ما ترفضه تل أبيب تماماً إلى الآن. وإذا كان إصرار إسرائيل على فصل المسارَين، بقاء العلاقات مع الأنظمة دون الشعوب، فإن هذا الاتجاه لا يلقى معارضة حقيقية داخل الكيان، بل قد يكون مطلباً. كما أن بقاء السعودية خارج دائرة التطبيع الرسمي، مع الاقتصار على علاقات أمنية وسياسية بها في الغرف المغلقة، لا يعدّ خسارة من وجهة النظر الإسرائيلية الحالية، طالما أن الثمن المطلوب لتجاوز ذلك هو تنازل في الملف الفلسطيني.
في المحصلة، هل ما يزال التطبيع أولوية في إسرائيل؟ المؤسسة الأمنية، بما فيها الجيش وأجهزة الاستخبارات، ترى في التطبيع عنصراً حاسماً لـ«الاستقرار الإقليمي»، الأمر الذي يستوجب الدفع في اتّجاه تعزيزه، خصوصاً إذا أسهم في تعميق التعاون الأمني والاستخباراتي مع الأنظمة العربية. أما المؤسّسة السياسية، وتحديداً الحكومة الحالية، فلا تضعه على رأس أولوياتها، بل إن بعض مكوّناتها تدعو إلى حذفه من الأجندة تماماً، خصوصاً إذا ما تعارض مع مشاريع داخلية توسّعية تتعلّق بـ«أرض إسرائيل الكبرى»، وترفض أن يتجاوز ثمنه مجرّد وعود سياسية قابلة للتراجع عنها لاحقاً، لا بل تدعو الدول العربية إلى دفع ثمنه إذا ما أرادته.
ما يمكن ترجيحه حالياً هو مواصلة المسار الحالي: رفض التطبيع بمعناه الواسع، والاقتصار على الجوانب الأمنية والاستخباراتية، مع الحفاظ على جسور العلاقات السياسية بالأنظمة. وفي حال غيّرت الأخيرة مقاربتها في خصوص فلسطين، فقد ترى إسرائيل في التطبيع العلني الكامل، محلاً لإعادة النظر والدراسة، مع استمرار الإصرار على فصله عن القضية الفلسطينية. وإذا كان التطبيع في السابق هو بوابة للاعتراف الإقليمي بالدولة العبرية، فإنه الآن لم يعُد هدفاً استراتيجياً، بل أداة تكتيكية قابلة للاستخدام أو التجميد، بحسب الحاجة والظرف.
مرتبط