هَبّة (صامتة) جديدة بوجه الشرع: الساحل يَدخل «إضراب الكرامة»
وكالة ميادين المقاومة
5 أيام مضت
أخبار هامّة, الرئيسية, النشرة الدولية, مقالات مختارة, منوّعات
يصوغ الإضراب العلوي في الساحل السوري إحتجاجاً سلمياً يطالب بوقف الانتهاكات وحماية الهوية وحقوق المواطنين.

يبقى الخوف من الإنتقام والفصل التعسُّفي عاملاً رئيسياً يَحُدّ من المشاركة الكاملة في الإضراب!
للمرّة الثانية خلال أشهر قليلة، يخرج أبناء الطائفة العلوية في سوريا عن الصمت، ويكسرون حاجز الخوف عبر أدوات احتجاجية سلمية، في محاولة لتثبيت وجودهم كمواطنين لا كجماعة متّهَمة أو فائضة عن الحاجة في معادلة السلطة الجديدة. فبعد اعتصام سلمي سابق دعا إليه رئيس «المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر»، الشيخ غزال غزال، استجابةً لما وصفه آنذاك بتفاقم مظاهر الظلم والانتهاكات اليومية بحق أبناء الطائفة، عاد الشيخ ليطلق دعوة إلى عصيان مدني وإضراب عام لمدّة خمسة أيام، في ظلّ استمرار تجاهل السلطة الانتقالية لمطالب العلويين، وغياب أيّ خطوات ملموسة لوقف الانتهاكات والخطاب التحريضي. والدعوة الأخيرة لم تأتِ من فراغ، بل وُصفت في خطاب الشيخ غزال السابق، بأنها جزء من «حزمة إجراءات سلمية» سيعلن عنها تباعاً، ما لم تتوقّف الممارسات التي طالت أبناء الطائفة، من اعتقالات واسعة، واستهداف على الهوية، ومجازر شهدها الساحل في آذار الماضي، فضلاً عن استمرار احتجاز آلاف العسكريين السابقين في السجون، ومحاصرة من سلّم سلاحه منهم، من دون أيّ معالجة جدية لهذا الملف حتى اليوم.
توقيت محسوب ورسائل متعددة
اختيار توقيت الإضراب لم يكن تفصيلاً عابراً؛ إذ تزامن مع ذكرى سقوط النظام السابق، التي تعاملت معها السلطة الانتقالية بوصفها عيداً وطنياً، ونظّمت بمناسبتها على مدار أيام احتفالات رسمية وشعبية، في وقت تعيش فيه شرائح واسعة من السوريين أوضاعاً معيشية خانقة. إلا أن الرسالة التي أراد الشيخ غزال إيصالها، وفق مقرّبين منه، لم تكن موجّهة إلى الاحتفالات بحدّ ذاتها، بل لتذكير الرأي العام بحجم المأساة التي عاشها العلويون منذ لحظة إعلان السقوط، مروراً بمجازر الساحل، وصولاً إلى استمرار العنف على أساس الهوية، الذي يجري توصيفه رسمياً في كثير من الأحيان بوصفه «حالات فردية». كذلك، حمل الإضراب بعداً آخر، تَمثّل في رفض ما اعتبره كثيرون محاولات غير معلنة لدفع العلويين إلى المشاركة في احتفالات ذكرى التحرير، أو على الأقلّ الامتناع عن إظهار أيّ موقف احتجاجي خلالها.
في اليوم الأول من الإضراب، بدت ملامح الاستجابة واضحة في مدن الساحل السوري وأرياف حماة الغربية وأجزاء من ريف حمص. وبحسب رصد ميداني أجرته «الأخبار»، فقد سُجّلت حركة تجارية ضعيفة جداً، مع إغلاق غالبية المحال في الأحياء ذات الغالبية العلوية، وانخفاض ملحوظ في حركة النقل والمواصلات. واللافت في هذا السياق، أن الاستجابة جاءت رغم مناخ الضغوط والتهديدات غير المباشرة، التي يخشى كثيرون من أن تتصاعد عقب انتهاء أيام الإضراب، خصوصاً أن الأسابيع التي سبقته شهدت حملة غير مسبوقة من التحريض ضدّ الساحل وأبنائه. غير أن كثيرين ممّن التقيناهم عبّروا عن قناعة مفادها بأنه «ما من شيء إضافي يمكن خسارته»، بعد سلسلة من الأحداث العنيفة التي خلّفت شعوراً عاماً باليأس وانعدام الأمان.
“بصورة عامة، يمكن توصيف استجابة العلويّين لدعوة الشيخ غزال في يوم الإضراب الأول بأنها مؤثرة”
أحد المشاركين وصف الإضراب بـ«إضراب الكرامة»، قائلاً: «الخيار أصبح بين العيش بكرامة أو القبول بالذلّ والخوف الدائم»، في حين فضّل معظم من تحدّثوا عدم ذكر أسمائهم الصريحة، خشية التعرّض لإجراءات انتقامية، كالفصل التعسفي من العمل أو المساءلة الأمنية. ومن بين هؤلاء الصحافية الشابة س. أ. (من اللاذقية) التي رأت أن مشاركة الأهالي في الإضراب تكتسب دلالة خاصة في ظلّ الأوضاع المعيشية الكارثية، التي تفاقمت بشكل كبير بعد أحداث آذار، لافتةً إلى أن شريحة واسعة من سكان الساحل تعتاش اليوم على أعمال هامشية أو بسطات صغيرة، بما لا يستثني عسكريين وضباطاً سابقين وجدوا أنفسهم فجأة بلا عمل ولا دخل. على أن عدداً كبيراً من أصحاب المحال والبسطات، خصوصاً في الأحياء الشعبية، شاركوا في الإضراب، تضامناً مع ضحايا مجازر الساحل فحسب، وأيضاً مع المعتقلين الذين ما يزال مصيرهم مجهولاً. ورفضت س. أ. الروايات التي حاولت ربط الإغلاق بالطقس الماطر، معتبرة أن ما جرى هو موقف احتجاجي واضح، نابع من ذاكرة جماعية مثقلة بالخسارات، بعدما فقدت عائلات بأكملها أبناءها وأرزاقها، وسط تصاعد خطاب الكراهية الطائفي، من دون أن يقابِل ذلك أي إجراء حازم من الحكومة الانتقالية.
مطالب واضحة وأفق مسدود
في بانياس، وصفت السيدة الأربعينية «ر.ع.» المشهد بقولها إن الحركة كانت شبه معدومة في معظم أحياء المدينة، في ظلّ التزام واسع بالإضراب، مشيرة إلى أن المطالب التي يرفعها المشاركون «ليست سياسية بقدر ما هي حياتية»، وتتعلّق بعودة المفصولين إلى وظائفهم، وإطلاق سراح المعتقلين، ووقف التحريض الطائفي، وتوفير الحدّ الأدنى من الأمان. وأضافت أن العلويين لا يطالبون بامتيازات خاصة، بل بحق متساوٍ في الحماية كمواطنين، محذرةً من أن استمرار الفشل في توفير هذه الحماية قد يدفع قطاعات من أبناء الطائفة إلى تبنّي خيارات أكثر راديكالية، من مثل المطالبة بصيغ حكم ذاتي أو فيدرالية، كوسيلة دفاعية في وجه ما يرونه تمدداً للفصائل المتشدّدة. أمّا في مدينة مصياف، حيث التركيب الطائفي أكثر تنوعاً، فوصف التاجر سليمان الإضراب بـ«الجزئي»، لافتاً إلى أن بعض أبناء الطوائف الأخرى انضمّوا إليه، بينما واصل آخرون أعمالهم بدافع الحاجة المعيشية، مستدركاً بأن الأرياف شهدت مشاركة أوسع، نظراً إلى أن معظم الانتهاكات وقعت هناك. ورأى سليمان أن الإضراب شكل حضاري من أشكال التعبير، مستغرباً التعامل معه بوصفه «فعلاً عدائياً»، في وقت تدّعي فيه السلطة الانتقالية أن السوريين باتوا يتمتعون بحرية التعبير. وقال: «المفارقة أن مجرّد الامتناع عن فتح محل يُقابَل أحياناً بتهديد ومحاسبة، وكأن المشاركين يحملون السلاح».
هكذا، يبقى الخوف من الانتقام والفصل التعسفي عاملاً رئيسياً يحدّ من المشاركة الكاملة، خصوصاً بين الموظفين والطلاب. فالموظفة سارة، وهي أمّ لثلاثة أطفال، مثلاً، أفادت بأنها شاركت في اليوم الأول فقط خشية فقدان وظيفتها، التي تمثّل مصدر الدخل الوحيد لعائلتها بعد فقدان زوجها لعمله وحرمانه من تعويضاته، كغيره من المنتسبين السابقين إلى الجيش. والأمر نفسه عبّر عنه طالب في كلية الهندسة في حماة، مشيراً إلى ممارسات عقابية غير رسمية، كحذف العلامات أو تسجيل الغياب بحق طلاب علويين شاركوا في فعاليات احتجاجية سلمية سابقة.
على أيّ حال، تبقى فاعلية الإضراب مرهونة بالأيام التالية، خاصة أن اليوم الأول صادف عطلة رسمية، ورافقه تأثير الأحوال الجوية. لكن الرسالة الأوضح التي خرجت من الساحل وأريافه، هي أن شريحة واسعة من العلويين لم تعُد مستعدّة للعودة إلى الصمت، وأن تجاهل مطالبها قد يجعل المشهد المرتبط بتلك المناطق، أكثر تعقيداً وقابلية للانزلاق إلى سيناريوات قاتمة.
مرتبط