إيران نحو رفع تدريجي لأسعار الطاقة: المشي على حدّ السيف

يعكس اتّجاه طهران لرفع أسعار الطاقة مأزق الدعم المُقنّع وعجز الموازنة، ويضع الحكومة أمام إصلاحات قاسية في ظل ضغوط العقوبات الغربية.

في مقدور الإصلاحات أن تُشكّل منطلقاً لتحسين هيكلية الطاقة في إيران.

في موازاة المهمّة الصعبة المتمثّلة في وضع إحياء قوّة الردع الإيرانية على جدول الأعمال، وزيادة الضغوط الغربية اتصالاً بالملف النووي، تتحرّك طهران على طريق اتّخاذ قرارات يبدو أنه لم يَعُد ممكناً تجنُّبها، خصوصاً في المجال الاقتصادي. وتغيُّر الاتجاه هذا، لا يُعدّ خياراً سياسيّاً فحسب، بل استجابةً لمعادلة ازدادت تعقيداً خلال السنوات الأخيرة: النقص الهائل في الطاقة، والعجز الهيكلي في الموازنة، إلى جانب تراجع الإيرادات من العملة الأجنبية الناتج من العقوبات، وتآكل شبكة البُنية التحتية، والأهمّ العبء الثقيل الذي بات يفرزه الدعم الحكومي المُقنَّع، مع تحوّله إلى واحد من أكبر التحدّيات الاقتصادية بالنسبة إلى إيران.

واقع الحال في إيران، اليوم، هو نتاج تكدُّس المشاكل، التي، في حال لم يُتّخذ قرار في شأنها، يمكن أن تتحوّل إلى خيار مكلف جداً. وفي هذا الإطار، فإن الإصلاحات التي لطالما ترافقت مع حساسيات اجتماعية وسياسية، وُضعت مجدّداً على جدول الأعمال، فيما يبدو أن الحكومة، وبقبولها مخاطرها، تَعدّ نفسها لنوع من «الجراحة الاقتصادية». ففي صحيفة «إيران» الرسمية، تحدّثت الناطقة باسم الحكومة، فاطمة مهاجراني، عن قرارات جديدة في الحقل الاقتصادي، قائلةً إن «الاقتصاد الإيراني يقف عند نقطة بات فيها من المستحيل وغير المرجوّ مواصلة النهج السابق. وعليه، فإن الحكومة، وانطلاقاً من مسؤوليتها المباشرة تجاه مستقبل معيشة الشعب، ترى نفسها مُكلّفة بمتابعة مسار الإصلاحات الاقتصادية بشفافية وعقلانية». وتقوم الإصلاحات، وفقاً للناطقة، على توجّهَين: «تقليص الامتيازات وعدم الكفاءة، وزيادة قدرة الإنتاج وتوفير الاستقرار للاستثمارات». وأقرّت مهاجراني، في الوقت ذاته، بأن هذا المسار «صعب» لكنه «ضروري». وقالت: «الحكومة تدرك تماماً أن أيّ تغيير في الهيكلية الاقتصادية، قد تصاحبه صعوبات في الأمد القصير، لكنه يفضي على الأمد الطويل إلى الاستقرار والتنمية المستدامة».

وعلى مدى السنوات الأخيرة، أصبح النقص في الطاقة أكثر حدّة؛ ذلك أن النمو في استهلاك الغاز الذي ازداد بمثلَين في العقدَين الماضيَين، بلغ مرحلة أصبحت فيها المسافة بين الإنتاج والاستهلاك، في الفصول الباردة من السنة، تصل إلى عدّة ملايين أمتار مكعّبة يوميّاً، ما يضطرّ الحكومة لتوجيه الغاز نحو القطاعات ذات الأولوية، ويتسبّب تالياً في انقطاع الغاز عن الصناعات في الشتاء. وفي قطاع الكهرباء، يغيب التوازن المُستدام بين مستويَي الإنتاج والاستهلاك؛ إذ وفقاً للتقارير الرسمية الجديدة، تحتاج الشبكة إلى استثمارات تصل إلى نحو 15 ألف ميغاواط، حتى تتمكّن من الخروج من دورة فصل الصيف التي تشهد انقطاعات متكرّرة في الطاقة الكهربائية. ومع ذلك، فإن محدودية موارد العملة الأجنبية والعملة المحلية (الريال)، لا تسمح باستثمارات واسعة من هذا النوع. وبالنتيجة، يبرز خياران أمام الحكومة لا ثالث لهما: إمّا مواصلة الوضع الحالي، ما يعني مزيداً من الانقطاعات في التيار الكهربائي، والتآكل والتقادم في معظم محطّات توليد الطاقة والهدر المتزايد للطاقة؛ أو التحرّك في اتّجاه اعتماد إصلاحات بنيوية تشمل تعديل الأسعار وتحسين الإنتاجية وخفض استهلاك الطاقة.

“تحوّل استهلاك الطاقة في إيران إلى واحد من أقلّ النماذج كفاءة وفاعلية في العالم”

على أن النقص الحادّ في الطاقة لا يعود إلى الاستهلاك المرتفع فحسب، بل بشكل رئيسيّ إلى هيكلية الدعم الحكومي في هذا القطاع. ويبلغ حجم الدعم المُقنَّع للطاقة، في الوقت الحالي، مستوى مرتفعاً، تقدّره التخمينات الرسمية بنحو 90 مليار دولار سنويّاً، أي أكثر من مجمل الموازنة العامة للحكومة. وذلك الحجم الهائل من الدعم، فضلاً عن أنه يشكّل عقبة أمام الاستثمارات في البنية التحتية، يربك عملية تحديد الأسعار بصورة جادّة، في وقت تحوّل فيه استهلاك الطاقة في إيران إلى واحد من أقلّ النماذج كفاءة وفاعلية في العالم. ومن هنا، فإن تعديل الأسعار يُعدّ ضرورة اقتصادية قبل أن يكون تفضيلاً سياسيّاً.

مع ذلك، فإن زيادة الأسعار في إيران، سترافقها بالضرورة نقاشات اجتماعية ومقاومة ومخاوف من الضغوط التضخّمية؛ علماً أن معدّل التضخّم السنوي يبلغ 50%، ما يجعل الرأي العام أكثر تحسُّساً وقلقاً تجاه أيّ زيادة في الأسعار.

وأسفرت تجربة إصلاح الأسعار، في السنوات الماضية – بما فيها رفع أسعار البنزين في خريف عام 2019 -، عن اندلاع اضطرابات واسعة في البلاد. ولهذا السبب، تسعى الحكومة إلى متابعة الإصلاحات المُتدرّجة ولكن المتواصلة، بدلاً من اتّباع أسلوب الصدمة المباغتة، في حين أن إرهاصات هذه السياسة ظهرت بوضوح في الأشهر الأخيرة: رفع أسعار الغاز للمشتركين الذين يفرطون في الاستهلاك، إلى جانب الزيادة المُتدرّجة لتعرفة الكهرباء والنمو التدريجي لأسعار المواد المستخدمة في البتروكيميائيات ومحطّات توليد الطاقة، بينما تجري نقاشات حول رفع سعر البنزين بالتدرُّج في إطار التقنين. وتشكّل تلك الإجراءات بالنسبة إلى الحكومة، سبيلاً لاحتواء ردود الفعل الشعبية، إلا أنها تُعدّ في الوضع الحسّاس الحالي، ضرباً من المشي على حدّ السيف.

ويأتي كل ذلك فيما تواجه الحكومة ركوداً نسبياً في إيرادات النفط؛ فعلى الرغم من أن صادرات النفط كانت بعد التغييرات في الأسواق الآسيوية عام 2024 ومطلع 2025، أفضل من الفترات السابقة، بيد أن القيود الناتجة من العقوبات والتخفيضات الباهظة الممنوحة للعملاء، جعلت مسألة عودة العملة الأجنبية إلى البلاد أكثر صعوبة. وفي تلك الظروف، فإن توفير الدعم الحكومي الثقيل للطاقة يزداد صعوبة بالنسبة إلى الحكومة، في حين يبدو إصلاح الضرائب، فضلاً عن تعديل أسعار الطاقة، من جملة الأدوات المحدودة المتاحة لديها، عشية العام الايراني الجديد، لاحتواء عجز الموازنة البنيوي.

وعلى المستوى الاجتماعي، تستوجب هذه السياسة تعزيز الثقة العامة، خصوصاً أن المجتمع الإيراني كان عُرضةً، خلال السنوات الأخيرة، لضغط التضخّم المرتفع، وتضرّرت بالتالي ثقته بالسياسات الاقتصادية. فإذا تمكّنت الحكومة من تحويل الإيرادات المتأتّية من إصلاح الأسعار لتحسين الخدمات العامة وتطوير البنية التحتية للطاقة ودعم الشرائح المحدودة الدخل، فإن احتمال القبول الاجتماعي لتلك الإصلاحات سيزداد، في حين أنه بغير ذلك، ستتضاعف المقاومة الشعبية بها.

وهكذا، إذا كانت الإصلاحات جزءاً من حزمة سياسية متماسكة طويلة الأجل، فإن في مقدورها أن تشكّل منطلقاً لتحسين هيكلية الطاقة في إيران. لكن إذا نُفّذت بصورة مرحلية وكانت مجرّد ردّ فعل، فإنها ستفقد فاعليتها ويمكن أن تسفر عن اضطرابات واحتجاجات داخلية في بلدٍ يتعرّض لضغوط هائلة، فيما لا يزال شبح الحرب يخيّم على أجوائه.

عن وكالة ميادين المقاومة

شاهد أيضاً

صحيفة “البناء”: مهمة كرم مرهونة بالنتائج لا بالنوايا.. فهل التفاوض وهم أم فرصة؟

قال مرجع سياسي إنّ البيان الرئاسي حول مهام التفاوض المنوطة بالسفير السابق سيمون كرم بدّد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *