«درّة تاج العثمانية الجديدة» | تركيا في سوريا: هنا لنبقى

تكشف اندفاعة أنقرة في سوريا مشروع العثمانية الجديدة وتطلعات التوسع والهيمنة التركية على حلب والمشرق ضمن صراع إقليمي محتدم.

تتواصل «الانتفاضة» السعودية والإماراتية لمنع سقوط كلّ سوريا بيد تركيا

لم تغادر الأدبيات السياسية والأيديولوجية التركية، صورة الدولة العَلية العثمانية؛ كيف لا وهي وريثة إمبراطورية امتدَّت على مساحة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والبلقان، لأكثر من ستمئة عام. ولهذا، ترافقت معظم النزعات القومية والدينية مع الحديث عن «الحقّ» في محافظات لا تقع ضمن حدود الدولة القومية الجديدة، مِن مِثل كركوك والموصل وحلب، رغم أن تلك الطموحات لم تتعدَّ حدود الأمل. ومع أن عهد أتاتورك ساده حياد نسبي، فإن تركيا بدأت عقِبه تشديد سياساتها الخارجية؛ إذ في عام 1947، أرست علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة، في ظلّ الاتفاق العسكري الذي أبرمته معها؛ وفي عام 1949، اعترفت بإسرائيل، ونسجت معها علاقات مماثلة، إلى أن انضمّت، في عام 1952، إلى «حلف شمال الأطلسي»، في ما عُدّ أبرز خطواتها الاستراتيجية. وعلى امتداد العقود اللاحقة، وحتى اليوم، ظلّت صِلات تركيا بهذا الثالوث تشهد توتّرات وخلافات لم تغيّر من جوهرها الاستراتيجي، مع فارق أساسي، هو أن العقيدة العلمانية للسلطة التركية كانت هي التي تُحرّك في تلك الحُقب السياسة الخارجية للبلاد.

إلّا أنه مع دخول تركيا، عام 2002، عصر «حزب العدالة والتنمية»، بدأت الدولة العلمانية تتبنّى أيديولوجية جديدة لمشروع التوسّع تحت اسم «العثمانية الجديدة»، التي نظّر لها أحمد داود أوغلو تحت شعار: «نعم نحن عثمانيون جُدد»، داعياً إلى «كومنولث» عثماني بزعامة بلاده، فيما تعهّد رجب طيب إردوغان، ذات مرّة، بأن يصل نفوذ بلاده إلى آخر شبر وطَأته سنابك خيل السلطان سليمان القانوني. أمّا عبد الله غول، فأكد أنه لا يمكن لتركيا أن «تُحبس داخل الأناضول». وقبل أيام قليلة فقط، كان إردوغان يتحدّث عن تركيا بحدودها الحالية، وتركيا الأخرى القلْبية التي تتّسع لتطال كلّ البلاد التي تنسج علاقات جيدة معها. وهكذا، انبعثت بقوّة فكرة «استعادة» حدود «الميثاق الملّي» لعام 1920، أي ضمّ شمال سوريا والعراق بكامله إلى تركيا.

لا تنطلق الأيديولوجيا الحالية لـ«حزب العدالة والتنمية» فقط من الموروث العثماني، بل أيضاً من الموروث السلجوقي؛ إذ يصف إردوغان الأتراكَ بأنهم «أبناء السلاجقة والعثمانيين». وبينما يمتّ هذا الأمر بصلة قوية إلى النزعة القومية العرقية التركية، فإن هذه الأخيرة ليست الوحيدة في ذلك، إذ هناك أيضاً النزعة الدينية – المذهبية، التي تجلّت ابتداءً في «الانتصار للإسلام على المسيحية»، بتحويل كنيسة «آيا صوفيا» عام 2020، وفي لحظة غير مفهومة، إلى جامع، ثمّ في وصف إردوغان الموقف الغربي من عدوان إسرائيل على غزة بأنه صراع الصليب مع الهلال (علمًا أن موقف الغرب ليس بعيدًا بالفعل من نزعة صليبية جديدةً)، في الوقت الذي يقدَّم فيه «الإسلام التركي»، للمفارقة، كـ«رأس حربة» في صراع مع «الإسلامات الأخرى»: الإسلام الشيعي الإيراني، الإسلام الوهابي، والإسلام الأزهري. ومن هنا، كانت تركيا العثمانية – السلجوقية تتقدّم إلى سوريا والعراق (حديقة الإسلام الشيعي)، وإلى ليبيا (حديقة الإسلام الأزهري)، وتتحدّى، بقاعدتها العسكرية في قطر، الإسلام الوهابي الحالي، في صراع مفتوح يفوق عمره القرنين. والتقت كلّ تلك العناوين تحت المسمّى الجديد: «القرن التركي»؛ إلى درجة أن انتصار آذربيجان على أرمينيا عام 2020، عزاه إردوغان إلى تبنّي شعار «تركيا أوّلاً».

«لم ندخل سوريا إلّا لتغيير النظام الظالم فيها وليس لأيّ سبب آخر»

نظرت السلطة الجديدة إلى المحيط الإقليمي لتركيا، انطلاقًا من كون أنقرة (الأصحّ إسطنبول) هي مركز الثقل ومنطلق دائرة شعاعية تشمل البحر الأسود والبلقان وشرق المتوسط والمشرق العربي وإيران والقوقاز وآسيا الوسطى؛ علماً أن تركيا كانت رائدة في تحفيز المصريين على إطاحة حسني مبارك، وفعلت الأمر نفسه في تونس وليبيا التي مضت نحو استجلاب التدخّل التركي في غربها. لكن العين التركية ظلّت تتركّز على سوريا، وعلى حلب خصوصاً؛ وفيما كان إردوغان يَنشد الصلاة في الجامع «الأُموي»، ظلّ يردّد: «أبقوا العين على حلب». وسوريا، وفق هذه المعادلة، هي جوهرة تاج العثمانية الجديدة، التي لم يتغيّر، على امتداد 13 سنة، التطلُّع الأساسي تجاهها: «سوريا شأن تركي داخلي»، «لم ندخل سوريا إلّا لتغيير النظام الظالم فيها وليس لأيّ سبب آخر»، وفق ما قاله إردوغان في عام 2016. والواقع أن سوريا، التي تمتدّ حدودها على طول 911 كيلومتراً، تُعدّ بوابة تركيا إلى العرب سياسيّاً واقتصاديّاً وحتى أمنيّاً؛ ومن هنا تحديداً، ذهبت دون سواها، ضحية جوارها الجغرافي، علماً أنها مثّلت مصدر التهديد الأمني الأساسي (حتى عام 1998) لتركيا، بسبب دعمها لـ«حزب العمال الكردستاني»، قبل أن تتحوّل، بعد العام المذكور، إلى العامل الرئيسي للاستقرار في جارتها.

وفي الثامن من كانون الأول من العام الماضي (2024)، أسفرت الضغوط التركية عن سقوط النظام في سوريا، حيث كان لأنقرة الدور المركزي، سواء من خلال جيشها مباشرة، أو عبر الفصائل المسلّحة التي رعتها في إدلب والمناطق المحتلّة من سوريا، وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام». ومنذ اللحظة الأولى لسقوط النظام، أعلن إردوغان أنه سيقدّم التجربة التركية نموذجاً يقتدى. ولكن ذلك شيء، وما فعلته تركيا شيء آخر؛ فكلّ الجهود التركية صبّت في إنشاء «سوريا جديدة» توائم مصالح أنقرة دون غيرها، بل وتتقدَّم على المصالح السورية نفسها. وفيما تعمل تركيا على صوغ سلطة موالية لها بالكامل على صعيد الكوادر الإدارية، يجهد مسؤولوها لإرساء نظام سياسي – اقتصادي يسهّل انكشاف السوق السورية بالكامل للاقتصاد التركي، وإمساك أنقرة بكلّ المفاصل الأساسية، من مثل الجيش والتسليح والأمن الداخلي وإعادة الإعمار والكهرباء والمياه والمطارات واستخراج الثروات الطبيعية والباطنية. ولعلّ الأكثر خطورة ممّا تقدَّم، آلية تركيب السلطة الدستورية والقانونية والسياسية للنظام الجديد؛ إذ أظهرت تجربة عام بكامله، أن التوجّه على هذا الصعيد بعيد كلّ البعد عن الشرعية الشعبية والعدالة والحوار الاجتماعي واحترام حقوق المواطنين، ومنها حقوق الأقليات العرقية والدينية والمذهبية، فضلاً عن بروز ميول جديدة غير وطنية إلى محو الذاكرة الوطنية والعروبية (إلغاء عيد الشهداء وذكرى حرب تشرين).

لا شكّ في أن تركيا ترى في سوريا، على الصعيد الإقليمي، مساحة جغرافية تتماهى مع تطلّعاتها إلى مزيد من التوسّع والهيمنة والحضور والنفوذ الإقليميين، وأن تصل بحدودها البرية إلى الأردن وفلسطين (الجولان المحتلّ) والعراق الغربي ولبنان؛ وبحدودها البحرية إلى كلّ شرق المتوسط. وفي حال نجاحها في ذلك، ستكون، بطبيعة الحال، قد امتلكت دوراً متفوّقاً على منافسيها الإقليميين، من مثل إيران والسعودية والإمارات ومصر وإسرائيل واليونان وقبرص الجنوبية.

لكن، ليس بالأمر اليسير تحقيق كلّ ما تقدّم؛ ففي الداخل، بدأ الاعتراض على الهندسات الداخلية للسلطة والمجتمع يطلّ برأسه، فيما إقليميّاً، تتواصل «الانتفاضة» السعودية والإماراتية لمنع سقوط كلّ سوريا بيد تركيا، من دون الجزم بالنتائج. غير أن الصدّ الأبرز كان من جانب إسرائيل، التي احتلت المزيد من الأراضي السورية، وفرضت «حرماً» على تمدُّد تركيا إلى الجنوب.

عن وكالة ميادين المقاومة

شاهد أيضاً

مناورات «سهند 2025»: إيران تعمّق انخراطها الأمني شرقاً

استضافت إيران مناورة “سهند 2025” لمكافحة الإرهاب، التي شاركت فيها جميع دول “منظمة شنغهاي للتعاون”، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *