سقوط عُرف الـ1991 في «نقابة المحامين»: أزمة ميثاقية جذورها تعود إلى القرن الـ 19

بعد انتخابات نقابة المحامين، طفت إلى السطح مجدّداً، أزمة الشراكة والتوازن الطائفي، مع كسر النتائج الأعرافَ التقليدية، التي نظّمت توزيع مقاعد مجلسها سنواتٍ طويلة.

يعود أحد المحامين سنوات إلى الوراء حينما خاض تيار المستقبل معركة أحد المرشّحين إلى مركز النقيب، ونجح في إيصاله إليه. يومها، اقترح «الحريريون» على مرشّحهم الفائز تعديلاً بسيطاً على العُرف المُتّبع في عملية التنسيب (75% للمسيحيين و25% للمسلمين)، يقضي بزيادة حصة المسلمين مقابل خفض حصة المسيحيين، لتصبح المعادلة: ثلثان للمسيحيين وثلث للمسلمين.

لكنّ النقيب الفائز، ورغم دعم «المستقبل» له، رفض مجاراة التيار في ذلك، خوفاً من فتح النقباء السابقين والقوى المسيحية، «أبواب جهنّم» عليه.

في المقابل، ينفي معنيون أن يكون هذا العُرف موجوداً، على اعتبار أن النتائج تُفتح أمام مجلس النقابة مجتمعاً ولا قدرة على التلاعب في نسبها، لافتين إلى أن الواقع يفرض طغيان عدد المنتسبين المسيحيين، من دون أن أي تدخل، إذ إن العدد الأكبر من الخرّيجين الطالبي الانتساب، وفقاً لهؤلاء، مسيحيون، ما ينعكس توزيعاً للنسب، وفقاً للآتي: 60% موارنة، 10 أرثوذكس و5% كاثوليك، في مقابل 25% للمسلمين: 10% سنّة و10% شيعة و5% دروز.

ورغم ذلك، يستعيد المستقبليون النقاش في «العُرف المُقدَّس»، بعدما أطاحت الانتخابات المنصرمة العُرف المُتّبع، الذي يعطي ثلاثة مقاعد للأعضاء المسلمين (سنّي وشيعي ودرزي)، إذ فشل المرشحون السنّة والشيعة في الوصول إلى مجلس النقابة، بينما تمكّن المرشح الدرزي وحيداً من الخرق.

«مصيَدة» التحالفات

ولا تعتبر الأحزاب المسلمة أن العرف «سقط سهواً»، وإنما بسبب امتناع الأحزاب المسيحية عن التصويت لمرشّحين مسلمين. ويعتقد قياديو هذه الأحزاب أنهم يقعون في كل مرّة في «المصيَدة» نفسها: يتحالفون مع الأحزاب المسيحية ويرفدون مرشّحيهم بالأصوات اللازمة لفوزهم، ليتبيّن بعد فتح الصناديق أن هذه الأحزاب لم تبادلهم أصواتهم بأصواتها.

وهو ما حصل في انتخابات الأحد الفائت، إذ لم يكن المحامون يحتاجون إلى الكثير من التبصّر لإدراك أن حزب الكتائب والتيار الوطني الحر لم يلتزما في مدِّ حزب الله وحركة أمل بالأصوات اللازمة. فحصلت المرشّحة المدعومة من «الثنائي»، سعاد شعيب، على 1188 صوتاً، بينما نالت المرشّحة المدعومة من حزب الله وحده، سهى الأسعد، 1349 صوتاً، علماً أن الأخيرة كانت مدعومة من عددٍ من النقباء السابقين، وعلى رأسهم ناضر كسبار.

ويعود ذلك لخدماتها النقابية على مدار السنوات السابقة، ما منحها قدرة على استقطاب أصوات من خارج حزب الله، الذي أعلن دعمه لها قبل أيام قليلة من الانتخابات. في المقابل، حصل المرشّح الكتائبي للعضوية، موريس الجميّل، على 1966 صوتاً، بينما نال مرشّح التيار الوطني الحر وحليف الصيفي، وسيم بو طايع، 1751 صوتاً، حلّ عبرها في موقع العضو الرديف.

والأمر تكرّر أيضاً مع تيار المستقبل الذي حلّ في المرتبة الأخيرة، بحصول مرشّحه توفيق النويري على 1050 صوتاً، علماً أن «الحريريين» لم يكونوا ضمن تحالف «الكتائب».

ازدادت الأحزاب المسلمة قناعةً بأن «المسيحي لا يُعطي صوته لمسلم»

وعليه، فإن الفارق بين مرشّحي الصيفي وميرنا الشالوحي المسيحيين من جهة، و«الثنائي» من جهة ثانية، كان بمعدّل يتجاوز 500 صوت، ما يؤكّد صوابيّة نظريّة الأحزاب المسلمة (الحزب والحركة وتيار المستقبل)، التي تقول إنّهم جيّروا أصواتهم لحلفائهم من دون أن يُجيّر هؤلاء لهم النسبة نفسها من الأصوات.

وبالتالي، رسّخت هذه النتائج أزمة التمثيل الميثاقي داخل مجلس النقابة، وأزمة الثقة بين الأحزاب المسلمة والمسيحية من جهةٍ أُخرى، إذ ازدادت الأحزاب المسلمة قناعةً بأن «المسيحي لا يُعطي صوته لمسلم». وينطلق المسؤولون الحزبيون من أن غياب التمثيل السنّي والشيعي ليس مشكلةً مُستجدّة داخل النقابة، بعدما غُيّب التمثيل الشيعي لأكثر من 12 سنة، ومعه أيضاً التمثيل الدرزي، فيما تمثّل السُّنة منذ عام 2002، قبل أن يغيبوا للمرة الأولى في المجلس الحالي.

استعادة تجربة 1991

ولكن يعتقد هؤلاء أن ما حصل في الاستحاق المنصرم كان استعادة تفصيلية لما جرى في عام 1991، حينما خسر جميع المرشّحين السُّنّة والشيعة في معركة على ثمانية مقاعد، تماماً كما حصل في انتخابات 2025، مع الإشارة إلى أن النظام الداخلي ينصّ على إجراء الانتخابات بشكلٍ سنوي لانتخاب أربعة أعضاء، أو أكثر في حال استقالة أحد الأعضاء للترشّح إلى منصب النقيب، إلّا أن العدوان الإسرائيلي أدّى إلى تأجيل انتخابات العضوية في عام 2024.

وعليه، ينطبق ما حدث قبل 34 عاماً على هذه المعركة، حينما فاز زياد حمادة (والد الفائز نديم حمادة) ودخل وحيداً من بين المرشّحين المسلمين إلى مجلس النقابة (رغم الظروف السياسية المختلفة التي كانت تسود في حينها، أي توقيع اتفاق الطائف وخروج الجنرال ميشال عون من لبنان)، لتثور ثائرة القوى المسلمة، وتصدر مواقف من شخصيات سياسية إسلامية بارزة، من بينها رئيس الحكومة آنذاك عمر كرامي. كما طالب عدد من المحامين بالبحث عن مخارج لأزمة التمثيل الإسلامي، وصولاً إلى مطالبة بعض المحامين مجلس النقابة بعدم الاعتراف بالنتائج وإعادة الانتخابات.

صحيح أن هذا لم يحصل، إلّا أن نقيب المحامين في حينه، سمير أبي اللمع، حاول إيجاد الحلول، خصوصاً أن الاعتراضات الرسمية كانت جدّية، في ظلّ امتناع الرئيسين كرامي وحسين الحسيني عن استقبال مجلس النقابة الجديد. في المقابل، كان لدى المحاميين عمر الزين والراحل أحمد قبيسي حلٌّ لهذه المعضلة عبر توقيع مجلس النقابة وجميع النقباء السابقين، كما المحامين من الوزراء والنواب الحاليين (حينها) والسابقين، على ميثاق شرف يقضي بتمثيل «جميع العائلات اللبنانيّة» من دون تحديد نسبة وأعداد.

وبالفعل، تمّ احترام هذه الصيغة، بشكلٍ أو بآخر، في كلّ الاستحقاقات اللاحقة، قبل أن يبدأ اتفاق الشرف بالاضمحلال على مرّ السنوات. البعض يرى في الأمر مبالغة، ويعتبره طبيعياً في إطار اللعبة الديمقراطية داخل بلدٍ طائفي. ويشير إلى أن الأزمة الحقيقية تكمن في كثرة المرشّحين المسلمين وعدم انضباط القواعد الحزبية للأحزاب المسلمة، ما يؤدّي إلى تشتّت الأصوات. وهو يشبه ما حصل في عام 1991 حينما ترشّح نحو تسعة مرشّحين مسلمين، فخسروا جميعاً. وتكرّر ذلك في الانتخابات الأخيرة، التي بيّنت عدم وجود استراتيجية واضحة لدى حزب الله وحركة أمل، كما تيار المستقبل، في نسج التحالفات أو اختيار المرشّحين أو التحضير قبل فترة زمنية كافية.

جذور الأزمة

في المقابل، يعتقد مسؤولون حزبيون أن الأمر أعمق من التكتيكات الانتخابية، بل في اعتبار الأحزاب المسيحية النقابةَ «قلعةً للمسيحيين»، وتحديداً الموارنة، لافتين إلى أنها عقليّة تمتدّ جذورها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حينما تأسّست أول كلية حقوق في «الجامعة اليسوعيّة»، وكان معظم طلابها مسيحيين.

فكان لهؤلاء الدور الأكبر في تأسيس النقابة وأكبر مكاتب المحاماة في لبنان، التي تُعدُّ الأكثر تأثيراً حتى اليوم. ويعتقد هؤلاء المسؤولون أنه في البدء، كان النقاش حول توسّع دراسة الحقوق، يقوم على الاعتبار الطائفي والطبقي لـ«حماية» النقابة، وهو ما أكّده الاعتراض العلني على افتتاح كلية الحقوق في «جامعة بيروت العربية» (وصل الأمر إلى إضراب النقابة)، أو ضمّ نقابة طرابلس إلى نقابة بيروت.

ووفقاً لهؤلاء، فإن النفس المذهبي يطغى في الكثير من الأحيان على الاستحقاق، وهو الذي أدّى مثلاً إلى خسارة إيلي بازرلي في وجه عماد مارتينوس (النقيب الحالي)، بعدما تكتّل الموارنة خلفَ مرشّح الطائفة في وجه بازرلي. ويشيرون إلى أن الكثير من القواعد الحزبية لم تلتزم بالتصويت لمارتينوس كونه ببساطة غير ماروني، وهم لا يريدون تكرار سيناريو النقيب السابق فادي المصري.

بسبب كل ذلك، تتعزّز القناعة لدى كثيرين بأن المسّ بالشراكة والتوازن الطائفي ممنوع عندما يتعلّق الأمر بالمسيحيين، ويصبح مسموحاً عندما يرتبط بالمسلمين!

عن وكالة ميادين المقاومة

شاهد أيضاً

مناورات «سهند 2025»: إيران تعمّق انخراطها الأمني شرقاً

استضافت إيران مناورة “سهند 2025” لمكافحة الإرهاب، التي شاركت فيها جميع دول “منظمة شنغهاي للتعاون”، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *