لبنان بين الهدنة والتطبيع: العدو العاقل خير من الصديق الجاهل

كريم حداد – صحيفة الأخبار

يبدو أن المقابلة المتلفزة مع الوسيط الأميركي السابق عاموس هوكشتين قد أعادت تسليط الضوء على ما يمكن تسميته بالمدرسة الواقعية في مقاربة النزاع اللبناني – الإسرائيلي. فالرجل، على الرغم من التزامه بأهداف الإدارة الأميركية العامة، قدّم قراءة براغماتية بعيدة عن الخطاب المتشنج. وهو دعا إلى تجنّب الضغط المفرط على لبنان بما يهدد بتفجير حرب أهلية جديدة، معتبراً أن ما تحقق حتى الآن في الجنوب يُعد إنجازاً مهماً تمثل بتقليص نفوذ «حزب الله» في الحكم والإدارة، وإخراج سلاحه من جنوب الليطاني، أي عملياً تطبيق اتفاق «إجراءات القرار 1701» الذي رعته واشنطن بين لبنان و العدو الإسرائيلي في أعقاب حرب تموز 2006.

الوسيط الأميركي السابق عبّر بوضوح عن إدراكٍ عميق لحدود القوة وللخريطة المعقدة للسلطة في لبنان. فهو يدرك أن الضغط السياسي أو الاقتصادي أو العسكري الزائد لا يؤدي بالضرورة إلى إضعاف خصوم الولايات المتحدة، بل قد يعيد إنتاجهم على شكل حركات مقاومة أشد صلابة، وإن كان الغربيون يهتمون بتوصيفها «أكثر تطرفاً». هذه المقاربة الواقعية، وإن ظلت منضوية تحت المصلحة الأميركية الكبرى، فإنها تعكس فهماً بأن الاستقرار في لبنان لا يمكن فرضه من الخارج بالقوة، بل عبر توازنات دقيقة بين الطوائف والمصالح الإقليمية.

أميركا، منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، جرّبت أكثر من مقاربة: من دعم قوى 14 آذار إلى سياسة الاحتواء بعد حرب 2006، وصولاً إلى العقوبات الاقتصادية ومحاولات العزل الديبلوماسي. لكنّ كل هذه المسارات لم تُحدث تحولاً جذرياً في ميزان القوى الداخلي. لذلك، تأتي تصريحات هوكشتين، لتعلن ـ ضمناً ـ فشل خيار التصعيد، وتفضيل خيار التهدئة المنظمة، أي ما يمكن تسميته بـ«الهدنة الديبلوماسية» مع إبقاء الضغط الاستراتيجي البعيد المدى.

حين يقول الوسيط إن «إخراج السلاح من جنوب الليطاني» هو تطبيق عملي لاتفاق 1701، فهو يربط الهدوء القائم منذ 2006 بمبدأ «تجميد النزاع» لا بحلّه. القرار الأممي شكّل بعد الحرب إطاراً لإدارة التوتر، ولكنه لم يعالج جذور الصراع المتمثلة بالاحتلال والأسرى والحقوق اللبنانية في الأرض والمياه. ولذا، فإن الحديث عن تطبيقه كنجاح نهائي هو قراءة أميركية أحادية، تتجاهل أن الالتزام اللبناني به نابع من موازين الردع لا من اتفاق سياسي دائم.

فالمقاومة انسحبت جنوب الليطاني بقرار داخلي مرتبط بمفهوم «الاحتفاظ بحق الرد»، وليس اعترافاً نهائياً بحدود الوضع القائم. إن جوهر النقاش اليوم هو في السعي الأميركي لتعميم اتفاقات أبراهام، أي إدخال لبنان في مسار التطبيع مع العدو الإسرائيلي. غير أن لبنان، بخلاف دول الخليج، لم يخض سلاماً بارداً مع العدو، بل عاش حروباً متكررة، آخرها حرب تموز التي دمّرت قرى ومدناً وقتلت الآلاف. لذلك، فالتطبيع هنا لا يمكن أن يكون قراراً سياسياً فوقياً بل صدمة وجودية، لأن الحرب تركت في الوعي الجماعي اللبناني والعربي جروحاً مفتوحة لم تلتئم بعد.

بين الجنوب المدمّر وصور شهدائه ومشاهد النزوح والدمار، لا يمكن للبناني أن يتقبل فكرة التطبيع قبل استعادة الأسرى والمفقودين، وقبل تحرير ما تبقى من أرض محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وقبل إعادة إعمار ما تهدّم. فالتطبيع في ظل بقاء الجراح نازفة ليس سلاماً بل إذعان، ومن يطرحه الآن، في ظل العجز الاقتصادي والسياسي، كمن يصبّ الزيت على النار.

فهم وقائع لبنان

ليست القضية مجرد ملف ديبلوماسي. فلبنان بلد صغير تتقاطع فيه الهويات والمذاهب والولاءات الإقليمية. أي محاولة لفرض التطبيع ستعيد فتح خطوط التماس القديمة وتبعث الانقسامات المذهبية، إذ ستُقرأ الخطوة على أنها انتصار لمعسكر ضد آخر، لا كتسوية وطنية. من هنا وجب على أي وسيط أن يتحلّى بذكاء سياسي ونفسي، فيدرك أن السلام لا يُفرض على شعب خرج من تحت الركام، بل يُبنى ببطء على الثقة والعدالة.

وهذا ما عبّر عنه الوسيط السابق حين حذّر من الضغط بما «يفجّر حرباً أهلية»، فهو يعلم أن لبنان لا يحتاج إلى شرارة جديدة. فكل مرة حاول الخارج إعادة هندسة نظامه بالقوة، انفجر البلد من الداخل.

“لا يمكن الدخول في مفاوضات مع حكومة يقودها نتنياهو، ومع وسيط لا يعرف وقائع لبنان القاسية والصعبة في آن”

وإذا كان النقاش قائماً وفق قواعد اللعبة الأميركية التقليدية، فإنه، من وجهة نظر براغماتية، يمكن القول إن التطبيع بين لبنان وإسرائيل يفتقد حالياً لأي جدوى ملموسة. فلا تبادل تجارياً حقيقياً يمكن أن يقوم، ولا مشاريع اقتصادية مشتركة قابلة للحياة في ظل غياب الثقة والأمن. كما إن غالبية وازنة في المجتمع اللبناني، ومن مختلف أطيافه، تنظر إلى إسرائيل ككيان معتدٍ، لا كشريك محتمل. وبهذا المعنى، فإن العقل البراغماتي الذي يعبر عنه هوكشيتن، يقود إلى خلاصة أنّ التسوية الوحيدة الممكنة اليوم هي «الهدنة الطويلة الأمد» التي تحفظ الوضع القائم وتمنع الانفجار.

قد يكون هوكشتين من القلائل الذين أدركوا هذه الحقيقة. فهو لم يأتِ إلى لبنان بصفة مبعوث إيديولوجي، بل كخبير في ملفي الطاقة والسياسة. ونجح في اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وحقق تسوية معقولة مكّنت لبنان من البدء باستثمار حقوله الغازية، وفي الوقت نفسه أمنت لإسرائيل استقراراً جنوبياً نسبياً. هذا النجاح الجزئي أكسبه ثقة الطرفين، وجعله نموذجاً للوسيط «الذكي» الذي يقرأ الواقع ولا يتعالى عليه.

ولذلك، فإن النقاش حول ما يمكن أن يكون عليه أي ملف للتفاوض، يحتاج إلى شخص يعرف واقع لبنان، وقد يكون هوكشتين أحد هؤلاء، لكن الأمر لا ينجح إلا بعد تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة لا يرأسها بنيامين نتنياهو. لأن أي اتفاق، ولو على شكل هدنة، لا يمكن أن يتم مع حكومة إسرائيلية كالقائمة حالياً. لأن أي اتفاق يجب أن يقود حكماً إلى تغييرات في سياسات العدو، ما يعني وقف الخروقات، وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار في الجنوب.

الواقعية والمبدئية

عملياً، يحتاج لبنان إلى مقاربة مزدوجة: واقعية في السياسة، ومبدئية في الدفاع عن سيادته. فالواقعية لا تعني التنازل عن الحقوق، والمقاومة لا تعني الانغلاق عن العالم. يمكن للبنان أن يحافظ على معادلة الردع، وفي الوقت نفسه ينخرط في مفاوضات تحفظ مصالحه الاقتصادية. لكن الشرط الأساسي هو أن تكون المفاوضات من موقع قوة، لا من موقع ضعف.

إنّ كل سلام يُبنى على الظلم مآله الانفجار، وكل تطبيع يتجاهل الجراح هو سلام مزيّف. أما الهدنة المدروسة، فهي وحدها القادرة على فتح الطريق نحو سلام عادل إذا ما تغيّرت موازين القوى.

قال هوكشتين إن ما تحقق حتى الآن مهم، ولكن الأهم هو الحفاظ على الاستقرار وعدم تفجير الداخل اللبناني. وربما لهذا السبب يصحّ المثل القائل: العدو العاقل خير من الصديق الجاهل. فعدوّ يدرك حدود قوته ويرف أن الضغط المفرط يولّد الانفجار قد يكون أحياناً أكثر فائدة من «صديق» لا يرى في لبنان إلا ساحة لتصفية حسابات إقليمية.

إن على الأميركيين، إذا أرادوا فعلاً استقرار لبنان، أن يواصلوا نهج الواقعية، وأن يفهموا أن التطبيع ليس بوابة السلام، بل آخر فصوله. والأهم هو تحقق العدالة، بحفظ الكرامة الوطنية، وإعادة إعمار ما دمّرته الحروب. حينها فقط، يمكن للبنان أن يفكر في المستقبل، لا كضحية دائمة، بل كدولة سيدة تعرف كيف تفاوض وتصنع مستقبلها لوحدها أو مع الآخرين.

عن وكالة ميادين المقاومة

شاهد أيضاً

«لوبيات» لبنانية من ورق تبحث عن زبائن في واشنطن

التحوّلات الكبيرة في المنطقة وفّرت لبعض اللبنانيين فرصة للتجارة في ما يُعرف بـ«اللوبيات»، والاستثمار في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *