أخبار عاجلة

لبنان بين الهدنة والاتفاق: إحياء 1949 أم السقوط في فخ 1983؟

منذ توقيع «اتفاقات إبراهام» بين الإحتلال الإسرائيلي وعدد من الدول العربية في 2020، تعمل الولايات المتحدة على توسيع دائرة التطبيع لتشمل ما تبقّى من الدول الرافضة، وفي طليعتها لبنان. غير أن لبنان ليس مجرد «دولة مترددة» في ركب التطبيع، بل هو آخر ساحة مفتوحة للمواجهة مع إسرائيل، حيث تتجسّد المقاومة المسلّحة كعنصر أساسي في توازن الردع الإقليمي.

في هذا السياق، تطرح بعض الأوساط السياسية والفكرية سؤالاً حساساً: هل بات على لبنان أن يتّجه نحو هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، أي نحو إحياء اتفاقية الهدنة لعام 1949، بدل الانزلاق إلى إعادة إنتاج «اتفاق 17 أيار» المشؤوم عام 1983؟

تسعى واشنطن عبر تعميم «اتفاقات إبراهام» إلى صياغة شرق أوسط جديد يُدار من بوابة التحالف مع إسرائيل، تحت عنوان «السلام الاقتصادي» ومواجهة «التهديد الإيراني». أما إسرائيل، فتسعى من خلف هذه الموجة إلى تحييد كل مصادر التهديد على حدودها الشمالية والجنوبية، وتفكيك أي معادلة مقاومة يمكن أن تعيق تمدّدها الإقليمي.

من هنا يتقاطع الهدفان الأميركي والإسرائيلي في لبنان: القضاء على المقاومة كشرط مسبق لأي تسوية. فإذا كان الأميركي يراهن على تعب لبنان الاقتصادي وإنهاكه المالي، فإن الإسرائيلي يراهن على حروب الاستنزاف النفسية والعسكرية لإجبار الدولة اللبنانية على القبول بـ«هدنة مفروضة» تؤدي تدريجاً إلى تطبيع فعلي.

بعد انتهاء حرب 1948، وقّع لبنان مع إسرائيل اتفاقية هدنة برعاية الأمم المتحدة في 23 آذار 1949. لم تكن تلك الهدنة اعترافاً بإسرائيل، بل إجراءً موقتاً لوقف إطلاق النار وضبط الحدود. نصّت الاتفاقية على أن لا تمسّ بسيادة أي من الطرفين، وأن تبقى قائمة إلى حين توقيع اتفاق سلام شامل يحدّد المصير النهائي للعلاقة بينهما.

رغم الخروقات الإسرائيلية المتكررة، ظلّت الاتفاقية سارية قانونياً ولم تُلغَ في أي مرحلة. حتى في أشدّ مراحل الصراع، بقيت الأمم المتحدة تعتبر أن «خط الهدنة» هو المرجع الأساسي لترسيم الحدود الدولية بين البلدين، وهو ما استخدم لاحقاً في رسم «الخط الأزرق» عام 2000 بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب.

“مفهوم «الديبلوماسية الوقائية» عند واشنطن، يدفعها إلى تمرير اتفاقات أمنية واقتصادية لتحقيق «الاستقرار الحدودي». لكنها، تريد دمج لبنان في منظومة إقليمية جديدة تقودها إسرائيل”

إحياء هذه الاتفاقية اليوم، بمعناها القانوني والسيادي، لا يعني بالضرورة اعترافاً أو تطبيعاً، بل يمكن أن يشكّل إطاراً مؤقتاً لضبط النزاع ومنع الحرب الشاملة، من دون المسّ بجوهر الصراع أو بحق لبنان في المقاومة والدفاع.

في المقابل، يشكّل «اتفاق 17 أيار 1983» نموذجاً معاكساً تماماً. فقد فُرض هذا الاتفاق على لبنان خلال اجتياح 1982، حين كانت بيروت محاصرة والجيش الإسرائيلي يحتلّ ثلثي البلاد. تحت الوصاية الأميركية، جرى التفاوض بين حكومة أمين الجميل وإسرائيل، ووقّع الاتفاق الذي تضمّن بنوداً أمنية وسياسية جعلت لبنان عملياً تحت إشراف إسرائيلي – أميركي، من التنسيق العسكري إلى ضبط الحدود وقيود الوجود الفلسطيني والسوري.

لكن الشعب اللبناني وقواه الوطنية، وبدعم من سوريا والمقاومة الصاعدة، أسقطوا الاتفاق قبل دخوله حيّز التنفيذ، لأنهم أدركوا أنه يُنهي حالة الحرب من طرف واحد ويحوّل لبنان إلى دولة تابعة في المنظومة الإسرائيلية.

لهذا السبب، يشكّل استحضار اتفاق 17 أيار في الذاكرة الوطنية رمزاً للخضوع والتفريط بالسيادة. أي حديث عن «سلام» اليوم خارج توازن الردع يشبه إعادة إنتاج تلك التجربة، ولو بلغة مختلفة.

منذ عام 2000، تغيّر ميزان القوى جذرياً. فقد فُرض انسحاب إسرائيل من الجنوب تحت ضغط المقاومة، لا عبر مفاوضات سياسية. ومنذ حرب تموز 2006، كرّس لبنان معادلة الردع المتبادل: أي اعتداء إسرائيلي واسع سيقابله ردّ قاسٍ يطال عمق الجبهة الداخلية في إسرائيل. هذه المعادلة هي التي حالت دون تجدد الحروب الشاملة، رغم التوترات الدائمة على الحدود.

اليوم، مع تصاعد الحرب في غزة منذ 2023، تسعى إسرائيل إلى «تحييد الجبهة الشمالية» وإسكات المقاومة في لبنان. لكن الأخيرة تمثّل جزءاً من منظومة إقليمية أوسع تربط الجنوب اللبناني بالميدان الفلسطيني والسوري والإيراني. ومن هنا، فإن أي «هدنة منفردة» يوقّعها لبنان قد تُفكّك هذا الارتباط وتمنح إسرائيل حرية الحركة ضد غزة وضد إيران لاحقاً.

قد يبدو خيار الهدنة الطويلة جذاباً لبعض الدوائر اللبنانية التي ترى فيه وسيلة لتجنّب الحرب الشاملة واستعادة الهدوء على الحدود. فلبنان يعيش أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وبنيته التحتية منهارة، والناس تئنّ تحت ضغط الانهيار المالي. لذلك، تُطرح فكرة «هدنة برعاية دولية» تحفظ الوضع القائم وتمنع الانفجار.

لكنّ الخطر يكمن في أن تتحوّل هذه الهدنة إلى مدخل لنزع سلاح المقاومة تدريجاً، وإلى إعادة صياغة الدور اللبناني وفقاً لأولويات إسرائيلية ــ أميركية، تماماً كما حدث في 1983. فالهدنة لا تُقاس فقط بوقف النار، بل بميزان القوى الذي يحكمها. إن هدنة تُفرض على لبنان من موقع ضعف لن تكون «تجميداً للحرب»، بل بداية لاستسلام بطيء.

الولايات المتحدة تروّج لمفهوم «الديبلوماسية الوقائية» في لبنان: أي ترتيب اتفاقات أمنية واقتصادية تحت شعار «الاستقرار الحدودي». لكنها، في الواقع، تسعى إلى إدماج لبنان في منظومة شرق أوسطية جديدة تقودها إسرائيل، من مشاريع الغاز والربط الكهربائي إلى الاتصالات والمياه.

في هذا السياق، أي «هدنة طويلة» قد تتحوّل إلى غطاء لدمج لبنان اقتصادياً وسياسياً في هذه المنظومة، ما يعني عملياً نهاية خصوصية الموقف اللبناني القائم على رفض التطبيع. إن ما يُقدَّم كـ«فرصة استقرار» قد يكون شكلاً جديداً من أشكال الهيمنة.

لا يمكن للبنان أن يتجاهل التحولات الإقليمية، لكن بإمكانه أن يواجهها برؤية مستقلة. المطلوب ليس «رفض الحوار»، بل «ضبط شروطه». فإحياء اتفاق الهدنة لعام 1949 يمكن أن يكون ورقة تفاوض لبنانية مشروعة، شرط أن يتمّ ضمن إطار السيادة الوطنية، وتحت سقف الأمم المتحدة، وبمشاركة الجيش اللبناني لا بديلاً منه.

بهذه الطريقة، يمكن للبنان أن يقدّم نفسه دولة مسؤولة تسعى إلى الاستقرار، من دون أن تتخلى عن حقها في المقاومة أو تقع في فخ التطبيع المقنّع.

إحياء الهدنة هنا لا يعني إعادة تأهيل إسرائيل أو التنازل عن فلسطين، بل يعني ترسيخ وقف إطلاق النار ضمن منطق توازن القوى، لا ضمن منطق الاستسلام. إنها خطوة دفاعية وليست سياسية.

الواقع اليوم يفرض على لبنان معادلة دقيقة: لا يمكنه الدخول في حرب شاملة، ولا يمكنه وقف إطلاق النارأيضاً أن يقبل هدنة تفرضها واشنطن وتخدم إسرائيل. المطلوب إذاً خيار ثالث: هدنة لبنانية بشروط لبنانية، تُبنى على القرار الوطني المستقل، وتحافظ على منطق المقاومة كعنصر ردع، لا كذريعة للعقوبات أو الانقسام.

إن إعادة الاعتبار لاتفاق الهدنة لعام 1949 قد تكون المدخل الواقعي إلى ذلك، لأنه اتفاق أبرم في ظل سيادة كاملة، وبرعاية دولية متوازنة، ولم يُفرّط بالحقوق أو الكرامة. أمّا العودة إلى منطق 17 أيار، ولو بلبوس جديد، فستعني تحويل لبنان من ساحة مقاومة إلى ساحة نفوذ أميركي ــ إسرائيلي.

في لحظةٍ كهذه، لا بدّ للبنان أن يتمسّك بما تبقّى من عناصر قوّته: جيشه، مقاومته، ووحدته الداخلية. فسلام الضعيف لا يحميه، وهدنة المقهور لا تقيه من الاحتلال، أما الهدنة السيادية فهي تلك التي تصون الكرامة وتُبقي لبنان في موقع الندّ، لا التابع.

عن وكالة ميادين المقاومة

شاهد أيضاً

نشاط حلفاء أميركا وإسرائيل من اللبنانيين في واشنطن: تل أبيب لا تريد السلاح… ونحن لا نريد الحزب كله!

قد يكون هناك نجاح أولي لخصوم حزب الله المحليّين، في إقناع مسؤولين أميركيين كبار بأن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *