أميركا تضع بيضها في سلّة السوداني: رهان على كتلة شيعية «مستقلة»

تسعى واشنطن لتحويل الانتخابات العراقية المقبلة إلى معركة نفوذ ضدّ طهران، عبر الرهان على السوداني لنزع سلاح الفصائل وترسيخ هيمنة سياسية أميركية في بغداد.

ما يكون خيار السوداني فيما لو صارت المواجهة حتمية بين أميركا وإيران؟

إذا كان من وصف يصحّ طوال السنوات الماضية للانتخابات العراقية التي تجري النسخة الأحدث منها الثلاثاء المقبل، فهو أنها معركة سياسية أميركية – إيرانية، وهي بدل من ضائع لمعركة عسكرية على أرض هذا البلد، لا تبدو واشنطن مستعدة لها أو قادرة على تحقيق أهداف كبيرة من خلالها. وفي الأصل، ما كان مطروحاً، وجرى التهويل به على العراقيين، هو ضربات أميركية أو إسرائيلية تستهدف الفصائل العراقية المسلحة المتحالفة مع طهران، وهذه لا تفيد كثيراً في تغيير موازين القوى في العراق، بل ربما تأتي بمفعول عكسي، وتضعف حلفاء الولايات المتحدة هناك، وهم كثر.

لوّحت واشنطن، كذلك، بعقوبات اقتصادية يمكن أن تشلّ العراق، وهي نظرياً قادرة على هذا الأمر، باعتبار أن المال العراقي كلّه يمر عبر حساب باسم الحكومة العراقية في فرع الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، تتجمّع فيه عائدات مبيعات النفط العراقي التي تمثّل 90% من إيرادات حكومة بغداد. لكن في هذه أيضاً، تواجه الولايات المتحدة محاذير، باعتبار أن العراق مرتع للمقاولين الأميركيين الذين يسيطرون على قطاعات كثيرة فيه، وأهمها قطاع النفط الذي عزّزوا في الآونة الأخيرة تحكّمهم فيه عبر عقود جديدة لشركتي «شيفرون» و«إكسون موبيل»؛ وبالتالي فإن أي عقوبات على العراق، سترتد سلباً على الشركات الأميركية، بما يجعل الخيار المذكور غير مجدٍ بدوره.

من هنا، تكتسي الانتخابات التشريعية أهمية كبيرة بالنسبة إلى الولايات المتحدة. والظاهر أن الرهان معقود على قدرة رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، الذي تفضّله الولايات المتحدة ودول الخليج، على جمع كتلة كبيرة في البرلمان، ولا سيما من النواب الشيعة، ما يجعل نزع سلاح الفصائل، مطلباً مقبولاً بالنسبة إلى مجموعة شيعية وازنة في البرلمان، تنضم إليها كتل الطوائف والأعراق الأخرى، التي تؤيد بالفعل بمعظمها هذا المطلب.

والواقع أن واشنطن لا تخفي نيتها تصعيد التدخّل في العراق خلال الفترة المقبلة، وذلك انسجاماً مع تحركات مماثلة تقوم بها في دول أخرى، وخصوصاً في سوريا ولبنان، بتنسيق مع دول الخليج وتركيا. وفي هذا السياق، جاء تعيين تاجر الحشيش الكلداني المولود في العراق، مارك سافايا، مبعوثاً خاصاً للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى البلاد، وهو تعيين صار نمطياً في إدارة ترامب الذي يدير سياسته الخارجية عبر مبعوثين من رجال الأعمال تعود جذور بعضهم إلى بلدان المنطقة، من مثل توم براك الذي يتولى الملفين السوري واللبناني. والهدف من تعيين سافايا أوضحه الأخير بنفسه، بقوله قبل أيام إن الفترة المقبلة ستشهد عملاً أميركياً حثيثاً لإعادة بناء العراق الذي لا يرى فيه «مكاناً لمجموعات مسلّحة تعمل خارج إطار الدولة»، ملاحظاً أن القيادة العراقية خطت خلال السنوات الثلاث الأخيرة خطوات مهمة في الاتجاه الصحيح، وبدأت تمارس سيادتها بشكل أكبر، وهي بالضبط الفترة التي تولى فيها السوداني رئاسة الوزراء.

“السوداني كان وما يزال يعتمد مع حلفاء الأمس لغة الإقناع وليس المواجهة”

واللافت أن سافايا انتقل فور الإعلان عن تعيينه للإقامة في العراق الذي ظلّ بلا سفير أميركي، منذ أن غادرت السفيرة آلينا رومانوسكي البلاد، في السابع من كانون الأول 2024. وقد جاء ذلك على خلفية استشعار الأميركيين تهديداً للسفارة، وأعقبه بأشهر قيامهم بسحب قواتهم من قواعد عراقية يعتبرون أنها قد تكون عرضة لهجمات انتقامية، في حال نشوب صراع عسكري مباشر جديد مع إيران، أو توجيه ضربات إلى فصائل عراقية.

لعلّ إيفاد مبعوث، بدلاً من تعيين سفير، يعني أن المطلوب إنجاز مهمة محدّدة، تتلخّص، وفق ما توحي به مقدمّاتها، ومنها توقيت وصول سافايا، بإدارة العملية الانتخابية لفرض سيطرة سياسية في بغداد على حساب طهران، ضمن الهجمة الأميركية الأوسع في المنطقة. وترجمة ذلك هي إبطال مفعول ما جرى عام 2022، حين سمحت الولايات المتحدة بتشكيل حكومة اعتُبرت في حينه مريحة لإيران، برئاسة السوداني نفسه، الذي كان خيار «الإطار التنسيقي» الذي تشكّل في غمرة المواجهة مع مقتدى الصدر، والتي انتهت بانسحاب الأخير من البرلمان ومن مجمل العملية السياسية. وساعدت يومها في ما تقدّم، الظروف التي شهدت بروز تحالف سعودي – روسي في منظمة «أوبك بلس» لرفع أسعار النفط العالمية التي كانت تعاني أصلاً من تبعات حرب أوكرانيا، فكان المطلوب أميركياً، استقراراً سياسياً في بغداد يسمح بزيادة إنتاج النفط العراقي وصادراته، قبل أن تعيد عملية «طوفان الأقصى»، بعد عام، تغيير المشهد تماماً.

لكن المهمة الجديدة تلك، بعيدة عن أن تكون مضمونة النجاح. وإذا كان من الواضح أن السوداني أظهر أكثر من مرة تأييداً لمشروع نزع السلاح، ولقيت علاقاته بالأميركيين وحلفائهم في المنطقة انتقادات علنية من الفصائل المسلّحة، وله منافسون سياسيون أقوياء داخل المكوّن الشيعي، فإن السؤال المطروح يدور حول ما إذا كان في إمكانه تحقيق فوز انتخابي ببرنامج من هذا النوع، يوصله إلى ولاية ثانية في رئاسة الوزراء.

فالقراءات الأخيرة للمشهد الانتخابي في العراق، لا توحي بسهولة تحقيق هدف من النوع المذكور، ولا سيما بعد إعلان زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، رسمياً قرار مقاطعة الانتخابات، ما يعني عملياً إغلاق الباب أمام ذهاب كتلة تصويتية من أنصاره نحو السوداني، الأمر الذي كان يمكن أن يحصل في ما لو ترك لهم حرية الاقتراع. ويبدو أن قرار الصدر انطلق من هذه الخلفية بالذات، إذ أظهر التزامه طوال السنوات الماضية بالخروج من العملية السياسية حتى انتهاء ما يسميه «نظام المحاصصة والفساد»، واعتصامه بالسلبية كوسيلة لتغيير هذا المشهد؛ كما أثبت أنه لا ينتقد حلفاء طهران، لينتقل إلى التحالف مع واشنطن، وإنما يريد قراراً عراقياً مستقلاً بالفعل.

كذلك، فإن السوداني نفسه، ورغم مواقفه الأخيرة، كان وما يزال يعتمد مع حلفاء الأمس في «الإطار التنسيقي» والفصائل المقاتلة، ومع إيران أيضاً، لغة الإقناع وليس المواجهة، والتي أفضت إلى وقف الهجمات ضد القواعد الأميركية في سوريا والعراق، وضد إسرائيل خلال حرب الإسناد، منطلقاً في ذلك من تشخيصه للضرر الذي يمكن أن يلحق بالعراق. وهو وإن كان يبدو ميالاً إلى تلبية المطالب الأميركية، فإنه لم يقل، في العلن على الأقلّ، في أيّ معسكر سيكون في حال أُغلقت أبواب المساومة وصارت المواجهة حتمية.

عن وكالة ميادين المقاومة

شاهد أيضاً

«لوبيات» لبنانية من ورق تبحث عن زبائن في واشنطن

التحوّلات الكبيرة في المنطقة وفّرت لبعض اللبنانيين فرصة للتجارة في ما يُعرف بـ«اللوبيات»، والاستثمار في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *