أخبار عاجلة

الفاشر بداية الحساب..

حربٌ على السودان، تُدار بالتحكّم عن بُعد من غرف مكيّفة في الإمارات

في الفاشر، ينام الليل مذعوراً من صراخ الأرض، وفي بطنها رائحةُ موت لا تُشبه إلا القيامة حين تنهض فجأةً، والسماء تمطر رماداً، والريح تجرّ أصواتَ النساء، كما تجرّ اللعنات من أفواه المظلومين. في تلك المدينة التي كانت يوماً قبلةَ القوافل وملاذَ الحكايات، صار الدم هو اللغة الوحيدة المفهومة، والرصاص هو القانون الذي يحكم من تبقّى حيّاً بين الخرائب.

دخل الجنجويد المدينة، كقطعانٍ بلا ضمير، لا يحملون من الإنسانية سوى أسماء زائفةٍ ورايات ملطّخة بشعار الدين، الذي صار سكّيناً في أيدي اللصوص. فأعدموا في يومين ثلاثة آلاف سوداني، بدم بارد: رجالاً وشيوخاً ونساءً وأطفالاً، كأنّما أرادوا أن يثبتوا أنّ الجحيم ليس وعداً غيبيّاً، إنّما خطّة تموّلها جهاتٌ خارجية، وتُدار بعقل بارد من قصور الزجاج في العاصمة الإقليمية، حيث تُعقَد الصفقات على جثث الفقراء، ويوقّع أمر الموت بمداد النفط.

لم يقتل الجنجويد الناس لأنّهم أعداء، بل لأنهم سودانيون؛ لأنهم ينتمون إلى مدينة عصيّة على الانكسار. كانت الفاشر، آخرَ ما تبقّى من الكبرياء الدارفوري، ولهذا كان لا بدّ أن تُسحق كي يُكمل المشروع مهمّته: مشروع المسخ الذي تُشرف عليه أروقة نفوذ دولة إقليمية قامت بتحويل الدين إلى تجارة، والرغبة في السيطرة إلى صناعة ربح تُغسل فيها يداها بالعطور، بينما تُغرق السودان بالبارود، تفتحُ موانئها ومطاراتها للشحن العسكري، وتُغلق شاشاتها عن الحقيقة، وتُرسل الذهب من جبال دارفور، إلى مصارفها، ثم تُرسل السلاح في الاتجاه المعاكس – كأنّما تريد أن تشتري موتنا مرتين.

في المستشفى السعوديّ بالفاشر، حيث يُفترض أن تكون الرحمة، قُتلت الرحمة ذاتها. سقط أربعمائة وأربعة وستّون مريضاً وجريحاً تحت الرصاص، بينما كانت الملائكة تبكي في صمتها المهين. أطلقوا النار على الأسرّة وعلى الأطباء وعلى الأجهزة، حتى على النوافذ التي كانت تنظر بصمت إلى الخارج، كأنّها تشهد اغتيال معنى الإنسانيّة. ومع ذلك، ظلّ بعض الأطباء يضمّدون الجراح حتى آخر رمق، حتى تحوّلت أيديهم إلى شواهد قبور صغيرة على أرواح كبيرة.

أمّا في مدينة بارا القريبة، فكان الموت يُكرّر نفسه بإتقان مرعب. خمس وخمسون روحاً، أُعدِمت في ساحة واحدة. قريةٌ بكاملها مُسِحت من الوجود، من سجلّ الدولة ومن ذاكرة الخرائط وكأنّ مَن فيها لم يولدوا يوماً، وكأنّ دمهم لا حقّ له في التاريخ. قُتِل هؤلاء لأنهم لم يركعوا، لأنهم لم يُصفّقوا للجنجويد، حين عبروا بموكب الذلّ الذي ترعاه دولة إقليميّة مجهولة من وراء الستار.

الدولة الراعية لقوات «الدعم السريع»، التي تتحدّث عن الإنسانيّة في مؤتمراتها، وتدّعي السلام في بياناتها، هي نفسها التي تمدّ هذه الميليشيا بكلّ ما تحتاجه لتزرع الخراب في جسد السودان. تُرسل الطائرات المحمّلة بالعتاد، وتُموّل الإعلام الذي يغسل صورتَهم، ويُزيّن القتلة بشعارات الوطنية والحرّية، وهم في الحقيقة عبيد المال والحقد. إنّها ليست حرباً بين السودانيّين، بل حربٌ على السودان، تُدار بالتحكّم عن بُعد من غرف مكيّفة في تلك الدولة، يقف فيها رجالٌ بلا ملامح، يُوقّعون على صفقاتٍ لا تعرف الرحمة.

الفاشر اليوم، ليست مدينة فحسب؛ إنّها مرآة للعالم، مرآة تُظهر وجهه الحقيقي بلا زينة ولا رتوش. وجهٌ تتغذّى عروقه على النفط، ويُضاء بأموال ملوّثة بالدم. وجه ينكر الجريمة في النهار، ويشارك فيها ليلاً؛ وجهٌ باع الضمير الإنسانيّ في مزاد المصالح.

لكنّ الفاشر، رغم كلّ هذا لا تزال واقفةً تُقاوم بالحجارة والجوع وبدموع الأمهات التي تسقي الأرض، حتى لا تموتَ الذاكرة. لا يزال فيها أطفالٌ يرسمون على الجدران أسماءَ آبائهم كيلا تُمحى، ولا يزال فيها رجالٌ يرفعون وجوههم إلى السماء ويقولون، إنّ العدل لا يُدفن وإنّ السودان لا يُباع، وإنّ الجنجويد، مهما طال ليلهم فإنّهم سيغرقون في دمائهم.

تستطيع هذه الدولة الراعية للميليشيا، ومن خلفها الكيان الصهيوني، أن تشتري السلاح، لكنها لن تشتري الغفران. تستطيع أن تغلق الإعلام، لكنّها لا تقدر أن تُخرس التاريخ. تستطيع أن تزرع الموت، لكنّها لن تحصد سوى العار – العار الذي سيلحقها في كلّ قاعة، وكلّ منبر، وكلّ صفحة تُسجَّل فيها شهادات الفاشر؛ لأنّ الدم لا يشيخ، ولأنّ المآذن التي تهدّمت ستظلّ تلعن الذين صنعوا من الدين تجارةً، ومن الإنسان وقوداً لصفقاتهم.

الفاشر، ليست النهاية بل بداية الذاكرة: بداية الحساب. البداية التي سيُسأل فيها السودان، كلّ من باع وسرق وموّل وسكت، وكلّ من جعل من الخراب طريقاً للنفوذ، ومن الذهب جسراً للموت. سيُسأل الجميع حين تُفتح دفاتر العدالة، ويُقرأ فيها اسم الدولة المموّلة بحروف سوداء كالفحم، مكتوبة على جدار من جثث الأبرياء.

ومع كلّ هذه الإبادة الجماعيّة، تبرز مجموعة سياسية متواطئة مع «الدعم السريع» (الجنجويد)، لتُبرّر لها هذه الجرائم والمجازر، أبرزُها مجموعةُ «تأسيس»، التي تتحالف مع الجنجويد، بشكل مباشر داخل الفاشر، ومجموعة «صمود»، التي يتّخذ رئيسها من الخارج مقرّاً له. هذه المجموعات السياسيّة هم قادة الإبادة الجماعيّة ومُبرِّروها.

إلى الشعوب الحرّة في كلّ مكان، من لبنان، إلى المغرب والجزائر، إلى تونس والعراق، وبقيّة الشعوب العربيّة، نُرسل نداء استغاثة ضدّ الإبادة الجماعيّة: قِفوا معنا، وأخبِروا العالم عنّا!

عن وكالة ميادين المقاومة

شاهد أيضاً

نشاط حلفاء أميركا وإسرائيل من اللبنانيين في واشنطن: تل أبيب لا تريد السلاح… ونحن لا نريد الحزب كله!

قد يكون هناك نجاح أولي لخصوم حزب الله المحليّين، في إقناع مسؤولين أميركيين كبار بأن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *